موت البطئ لشعوب دار المساليت

موت البطئ لشعوب دار المساليت

(بمناسبة مرور مائة عام علي معركة درجيل)



درج أهل دارفور علي حياكة القصص للتعبيرعن المواقف السياسية أو الإجتماعية المعقدة إلا أن قصة للفنان التشكيلي والقاص محمد إدريس حسن إستوقفتني لجمال السبكة وحيرتني في شأن قوم يملكون هذا الأرث الذاخر من الحكمة ويعجزون عن تجاوز ما إعتراهم من محنة: وقع الأسد في قِد (فخ مصنوع من الجلد)، فإحتجت الحيوانات لما تعرض له ملك الغابة الذي ظهرت عليه علامات الضعف والهوان ممَّا إقتضي عقد إجتماع عام للمشورة. لكن الأمر لم يستلزم إستنفار النمور، النسور أو أي من كبار الطيور إذ أن الجراد قد تطوع بأكل القد، وقد فعل. إكراماً لصنيعه فإن أحد الفضلاء تقدم بإقتراح مفاده تحريم أكل الطيور علي الطيور وصيغته "ألا يأكل طير‘‘ طيراً." الغريب أن هذا الأمر لم يجد إستحسان (طير الرهو) الذي التفت إحتجاجاُ مما أورثه إلتواءاً في رقبته ظل مصاحباً لهيئته النفسية والَخْلقية، أو هكذا تقول الميثولوجيا. أمَّا أبون خريطة (أب تنترة) فقد بلغ مبلغاً من الخنق جعل حلقومه يتدلي ويتورم حتي يومنا هذا. في لحظة الحيرة هذه، وفي ظل هذا الإرتباك المعنوي، مر (أب منقور- شيخ الطيور)، لكن المجموعة إذ عجزت في إستنطاقه فقد نجحت في إقناعه بإيفاد إبنه (ولد أب منقور-- شيخ الطيور) الذي إفتتح حديثه بقوله: "فحلة العويين بتبور ولو كان جمالها نور، وفحل الرجال بسكن القبور، والعيش بكمَّله مُلاحه والكلام بقتله النصاحة. يا أخونا نحن تزوجنا بنات الناس، جبناهم، حفرنا الشجر، دفناهم في الجحور وليتناهم (المعلوم أن أنثي شيخ الطيور تعتكف فترة التبييض والتفقيس في حفرة داخل ساق الشجرة وتُغطي فوهة الحفرة بالطين إلاَّ مقدار ما تدخل الجرادة، ممَّا يجعله يتحمل أعباء المؤونة والعناية) ونحن عيشة بلا جراد ما عندنا." تثني (لابون خريطة) في هذه الأثناء بلع ما إعتري حلقومه من سائل لكن أثر الحنق لم يزل بادياً علي هيئته في شكل كيس دهني فقال: دا ولد منو؟ فقيل له: دا ولد أب منقور شيخ الطيور. فقال مستبشراً بمستقبل هذا الغلام: دا كان أبوه مات بمسك بكانه. فإنفض الجمع ورررررررر.......... والكل يقول "نحن عيشة بلا جراد ما عندنا، نحن عيشة بلا جراد ما عندنا".

هكذا وبكل عفوية تم التنكر للجراد، بل أن نبل الموقف قد تم تجييره لصالح مجموعة إنتهازية مما أكسبها شرعية تواطئية وجعلها تسيَّر الإمور دونما أدني تحسب ليوم المساءلة أو يسير إهتمام بواقع المفاصلة (بين من يعملون لدارفور ومن يتحفزون لنفيها -- تجيير إرادتها في الإنتخابات القادمة). إنهم يتخطون واقع المعاناة الإنسانية إلي التنبر بحتمية الفوز، مجرد الفوز في اللهوة السياسية التي سميت "إنتخابات". لم يتعرض أي من مرشحي الحزب الواحد لمسألة تقرير المصير (كما يقول الدكتور عبدالله النعيم: إحالة التغيير لصاحب التغيير، المواطن، كي يمارس حقه في بلورة الذات الحضارية التي تؤمن بأن الإنسان هو الغاية من الكفاح، وليست فقط الوسيلة). لا عجب فهم لا يؤمنون بمركزية الواسطة الإنسانية، بل الأدهي أنهم يتفادون مجرد التأثير علي علائق القوي، بلغة أيسر تغيير المعطيات للحصول علي نتائج مختلفة. وهم بذلك إنما يقدحون في شرعيتهم قبل أن يقدحوا في مشروعية العمل الثوري الذي يؤمن بضرورة الكفاح الذي يهب الذات إستقلاليتها بل يحفزها للتغيير الذي يرفع (ولا يضع) من قيمة الإنسان كإنسان. إن مقولة لأحد ملوك بريطانيا "مشكلة أسكتلندا أن بها كثير من الأسكتلنديين" تجسد محاولة البعض القفز فوق طموحات الشعب لتحقيق أطماع الغاصبين. إن طموحات قائد المسيرة الإسلامية آنذاك د. حسن عبدالله الترابي كانت تتجاوز "الهموم الاولية" لقاطني الإقليم المتمثلة في التنمية والتعايش السلمي إلي تطوير سفينة الصحراء لتقوم بمهام دعوية تفوق تلك الرعوية وتتجاوزها إلي آفاق رسالية كبري. من هنا نفهم أن المؤتمر الشعبي العربي الإسلامي والذي دُعيت له فعاليات إقليمية ودولية وإستُثنِيت منه أخري محلية، لم يكن إلا الجناح السياسي للفيلق العربي الإسلامي الذي تبنت دعمه ليبيا في مرحلة من مراحل المغامرة العسكرية. لقد حطت دولة الإنقاذ من قيمة الإنسان السوداني عامة، ومن قيمة إنسان دارفور خاصة. يوم ان إتخذت تدابيراً مؤسسية (حكمية وإدارية) جعلت من الصعب الحصول علي التفويض الشعبي طوعياً مما خلف إحباطاً عاماً وتوجساً جعل من الصعب إذا لم نقل من المستحيل التواصل ناهيك عن التنسيق أو التنظيم بين كآفة المجموعات السكانية في المنطقة. فإن الخلاف بين أعضاء الحزب الواحد لا يكاد يحتدم حتي يهرع أبناء الإقليم إلي الخرطوم ليلتقوا (بعصابة المركز) التي لا تبت في الشأن المعني وفق المصلحة العامة إنما حسب ما تقتضيه مصلحة التنظيم الخاصة والتي لا ترضي بأقل من نفي دارفور من الخارطة الوجدانية إذا تعذر إلغائها من الخارطة الجغرافية، ولو مجازياً. مثلاً، إن إجتماع ٢٠٠٠ عضواً من المؤتمر الوطني لم يكف لإختيار والي لغرب دارفور حتي يحال الأمر برمته إلي الخرطوم التي تُخطر رعاياها في الإقليم بأن الأمر لايخلو من كونه إجراء تفاوضي يحتاج لبعض الوقت. لكنها في الأصل مسألة مبدئية تتعلق بموقف الإسلاميين، رغم تغيير، اللاعبين السياسيين، الفرعيين منهم والرئيسين، من دارفور.

وإذ أن العروبة والإسلام قد تلازمتا وفق إيدولوجية وفهم محدد لكليهما فإن الإستراتيجية قد إقتضت ترحيل كافة القبائل الزنجية من مناطقها حتي لا تكون عائقاً للمشروع التوسعي الذي ظل يحدوه الامل بالوصول عسكريَّاً إلي جنوب أفريقيا. إن الدولة قد بدت منذ اليوم حرب إستنزاف كان المقصود منها إزاحة الفور والمساليت عن مناطق تُعتبر إستراتيجية مثل جبل مرة ووادي صالح. أمَّا الزغاوة فلم يتعرضوا لهذا المشروع الإستئصالي لأن معظم قادتهم كانوا متحالفين حتي هذه اللحظة مع النظام، بل أن كبيرهم كان يسميها القبيلة المجاهدة وكان كثيراً ما يتباهي بمجاهدتها "التجارية" وشجاعتها "الميدانية". لعل من الأحن أن قياديين من أبناء القبيلة المجاهدة قد ذهبا، في خضم هذا المعترك التعبوي، لإقناع القيادات العربية النافذه بجنوب دارفور، بضرورة إستنهاض همة المجاهدين لتحرير الجنوب من الكفرة والملحدين. فلمَّا أن أيسا من تأييدها لمثل هذه المهمة والتي كان من المفترض أن يتولاها الجيش كمهمة عسكرية إبتاعا خيلاً وحميراً لمن غرَّ بهم كانت ضحية الألغام التي كانت تتبع الظل قبل الخُطي، أو هكذا كنا نسمع. بإيراد مثل هذه الحيثيات وغيرها تترأ، فإنني لا اود أن أُجرم شخص أو فئة إنما أريد أن أشير إلي أن كافة المجموعات المحتربة حالياً قد تعاملت في وقت من الأوقات (وبدرجات متفاوتة) بسذاجة وتعامت عن الإستراتيجية المركزية للنخبة النيلية الحاكمة، مهما إختلفت مسمياتها. فإن من الزرقة من إستقوا بالسلطة ضد العرب ومن العرب من لم يزل مستقويَّاً بالسلطة ضد الزرقة. ولقد آن الأوان الذي لزم فيه إستقواء كافة الفصائل الدارفورية ببعضها البعض وفق إستراتيجية لا تسعي للإنتقام بقدر ما تسعي لإنصاف الآخرين وتحقيق كرامة المتضررين. الأهم أن نعي أن هنالك جهة ما هي الوحيدة التي لها مصلحة في كتابة المناشير مثل قريش (1) وقريش (2) لتؤلب "الزرقة" علي العرب، كما أنها وزعت مناشير مثل "تحرير (وادي عرديب) من الدنس العربي"، ومن بعد "تحرير (دارفور) من العرب"، لتؤلب العرب علي "الزرقة". وإذا ما حمي الوطيس فلم تتردد في تسليح الفريقين المقتتلين من الزرقة والفريقين المقتتلين من العرب (كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فساداً والله لا يحب المفسدين). صدق جبران خليل جبران يوم أن قال:

قاتل النفس مأخوذ بفعلته وقاتل الروح لاتدر به البشر

في الوقت الذي ظلت الدولة تسعي فيه لتغيير ديمغرافية المنطقة، قدم الأستاذ/ محمد أحمد فضل الملقب (بدقشـــــم) في عام ١٩٩٤م حاكماً لولاية غرب دارفور. هذا الأخير لم يضيع وقتاً في البحث عن مبررات فكرية ولوازم إدارية فقد كانت لديه مصوغات دينية شرعنت له المساس بالوضع السيادي، الذي لم يجرؤا أيّ من الطواغيت المساس به قبل ذلك ولو إلي حين. فقد ألغت مايو الإدارة الأهلية لكن يدها لم تطل دار المساليت لعلم العلامة جعفر بخيت بالمواثيق الدولية التي أعطت سلطان دار مساليت (بإعتباره سلطاناً للمساليت أينما كانوا) حق الإنتماء إلي السودان الفرنسي أو ذاك الأنجليزي. لكن إنتماء هؤلاء الأبطال وأسلافهم إلي السودان السوداني قيد لهم قدراً بمواجهة أناس مثل (دقشم) لا يهولهم إستبدال لقب سلطان بأمير أمراء أو خلق رصفاء له من رعاياه، قمر كانوا أم عرب. إن المسئولية الشرعية لدقشم ومن جاء بعده ومن جاء قبله، لم تتطلب بناء مدارس لأبناء وبنات الريف، تدريب قابلات يتلقين العائدات في الشق الآخر من وادي (مرني) حتي لا تحبسهن مياه الوادي من الوصول إلي مستشفي الجنينة، أو حفر آبار لمجاميع الرُحل المتناثرة حول المدينة، دعك من التفكير عن توفير دعم لصغار المزارعين أو تشجييع الزفات (المهرجانات الثقافية) التي تساعد في كسر حلقة الإنعزال الفكري، الطبقي أو المكاني. فهذا مما يفوق إمكانياتهم جميعاً للتفكير. لقد أعتبر دقشم نفسه ممثلاً لرئيس دولة إسلامية مهمتها منع المريسة، حسم المسائل الفقهية جبرياً، مثل قوله بوحدة المطالع ودحضه للقول بإختلاف المطالع في رؤية هلال رمضان.

" فليكن:

ها أنت في محنتك الكُبري علي الساحةِ أنبلْ!

من أدانوُك أُسميهم

سيوف البغي في دولة مهووس بن طنبل!

نحن في حضرة مولاهم دعيِ الدينِ،

في قبضة مأفونِِ وتنبلْ "!

(جابر حسين- كجراي عاشق الحرية والقول الفصيح)

لقد تصدي السلطان عبدالرحمن بحرالدين للتحدي الذي إستهدف كيانه، لا بإسترضاء منظومة الجلابة الحاكمة أو إبتعاث وفود لملاقاة زبانيتهم في الخرطوم، لكنه إستدعي أبناء المساليت (الملقبين بالغبش كلاب الموت لجسارتهم) من كآفة أبناء الإقاليم، من القضارف، بورتسودان، الجزيرة، إلي آخره، إلي إجتماع عام قال فيه أن الحق هو حق المساليت كما أفصح وبين أن الذي يعينه ليست الحكومة وإنما أهله الشينين ديل! هب المثقفون من أبناء المساليت حينها في وجه هذا المستبد، من كان منهم إسلامياً أو شيطانياً، لا للدفاع عن سلطانهم فقط إنما أيضاً لتقنين حقهم السيادي في الأرض. عاش السلطان بعدها مُضاماً لكنه مات موفور الكرامة، فهل وعي أبناءه الدرس؟ إن سعداً اليوم يواجه محنة لا تقل عن محنة أبيه فهو بالترشيح لمنصب والي إنما يريد أن يثبت حقه وحق أهله السيادي في دار مساليت يدعمه شعوب دار مساليت من عرب، أرينقا، قمر وغيرهم، لكنه إذ يفعل ذلك إنما يستجدي بصورة غير مباشرة عصابة المركز في التكرم عليه بحق مستحق في الأصل. وبال عليه إن هم باركوا ترشيحه لأنهم يعطونه سلطة دون صلاحيات أو إمكانيات، وبال عليهم إن لم يفعلوا لأنه حينها سيكون المرشح غير الرسمي لشعوب المنطقة.

نواصل حديثنا عن حملة الكراهية والتي حيكت منذ اليوم، إذ أن العصابة كانت تبحث عن مبررات ميدانية تهيئ لإستئصال كافة القبائل الأفريقية، خاصة التي تملك ديار. لقد قلنا أن المقاومة التي سُميت تمرداً قد بدأت في جبل مرة مما إستدعي التكلم مع الإدارات الاهلية محاولة لإستيفاقهم، كل حسب توجهه، من كان عنصرياً صورت له المعركة أثنياً، من كان قومياً طلب منه إستنفار رعاياه للإنضمام لحملة التصدي، ومن كان إنتهازياً لم يحتاج إلي شروح. في هذه الأثناء أوفدت الحكومة مجموعة لتحدد للسلطان سعد مناطق العمليات وتستحثه تحديد مقاتلين، بالفعل إستجاب للنفير ما لا يقل عن عشرة الاف من شباب المساليت، إلاَّ أن الوفد إكتفي بعدد ١٥٠٠ تلقوا تدريباً عسكرياً محدوداً، حملوا أسلحة بائسة ووعدوا بتلقي أوامر للتوجه جنوباً لحراسة آبار البترول، لكنه ذلك كله ذهب أدراج الرياح. إن مهندسي الحروب في الخرطوم، وبعد ان تلقوا ضربات هائلة من التمرد، رأوا أنهم لا طاقة لهم بهذه الجيوش التي تلقتها الجماهير بتأييد معنوي هائل (فقد إستقبلتهم كافة المدن الدارفوية في الأيام الأولي بالزغاريد)، خاصة أنهم قد عبروا في خطابهم عن الغُبن الذي يعيشه الإقليم منذ أمد بعيد، وإن فاتهم تأمين خطة تحول دون الوصول إليهم ولو من وراء جبل. إن غرور البعض من أبناء "القبيلة المجاهدة" وجهله قد حرضه للأخذ ببعض الثأرات التاريخية ذات الطابع الاثني القح مفوتاً فرصة الإستئناس بمحامد الفتح ومفسحاً مجالاً للتسليح الإنتقائي الذي إعتمدته الخرطوم وسيلة لضرب الوحدة الدارفورية. لم تمر أيام علي إجتياح مطار الفاشر حتي نشب الحريق المتعمد في قُري وادي صالح التي تبعد عن مسرح العمليات بأكثر من ٤٧٠ كيلو متر مما تسبب في نزوح الالاف تلو الالاف من قراهم ، مكجر، بندس، أرولا، دليج، مرني، إلي آخره، كانوا علي يقين منذ الوهلة الأولي بأن الجهة التي يقصدونها للعون هي ذات الجهة التي امرت بفتح نيران المدفعية علي صدور أبائهم وأمهاتهم. لكنها الحيرة في الوهلة الاولي، التي الجأتهم إلي أعدائهم ويقيهم بأنهم لم يرتكبوا ذنباً يستحقون عليه عقاباً فهم لم يجرؤا يوماً بمطالبة الحكام بأي خدمات فلم يشنفوا إذ أنهم بغير الهتافات.

أمَّا من نجا منهم فقد تكرمت الولاية بترحيله علي متن ناقلات ZY كانت معدة مسبقاً لقذفهم قرب جبل أولياء! كيف إذن تكون هذه المشكلة قبلية بأبعاد محلية وهنالك ما يفيد بان ثمة جرائم عرقية قد تمت بدوافع سياسية إيدولوجية؟ إن حالة الإستقطاب السياسي الذي كانت تعيشه العاصمة فور المفاصلة بين القصر والمنشية قد فاقم من حدة التوتر وسارع في وتيرة الأحداث لكنه لم يغير من الوجهة التي كانت تسير نحوها. إن الحكومة لم تكتف بوضع فواصل مادية، مثل نقاط التفتيش، لتحول دون التواصل بين المساليت والعرب لكنها أيضاً شيدت سلك (معنوي) شائك يحرم أبناء الإقليم الواحد من التكامل الإقتصادي والإجتماعي. إن المخبرين بالمرصاد لمن تسول له نفسه زحزحة هذه الحواجز وإستشفاف العِبر من الماضي فليست أدهي من معركة تنقوري بين المساليت والعرب والتي تم تجاوزها بالحكمة الشعبية، وإستشراف أفاق المستقبل الدالة بان العرب، كما الفور، هم الحليف الإستراتيجي للمساليت والعكس صحيح. إن إستثمار مثل هذا الوعي يعد خطراً تقف عنده الدولة بكافة أجهزتها لأنه يدحض مشروعها العنصري القاضي بضرورة الإبقاء علي حالة الفوضي هذه حتي قيام الإنتخابات. وإذا إستدعي الأمر، فقد زرعت الدولة من الألغام، جيش الرب، القاعدة، المعارضة التشادية إلي أخره، ما يكفي لتدمير دارفور سبعين مرة، وذلك قبل قيام الساعة. المهم أن لا تكون دارفور في حالة صحية تُهيئ لها فرصة الإدلاء برايها في مستقبل السودان الشمالي المنفصل. إن النزوح الذي بدأ منذ عام ١٩٨٢م ليهئ لدارفور إذا توحدت شعورياً (وليس حزبياً) الفوز بمنصب الوالي لولاية الخرطوم، فلماذا لا ينازل الخصم في أرضه؟ وإذا سمحنا له بمنازلتنا في أرضنا لماذا لا تكون المعركة بين الوطنيين الدارفوريين (الذين يتواجدوا في جميع الأحزاب يشمل ذلك المؤتمر الوطني) وأولئك الإنتهازيين الذين تعاقبوا علي حكم الإقليم تحت كافة المظلات والمسميات؟ لماذا لا تُحَوَّل المعركة إلي معركة كرامة والساحة إلي مقبرة لأحلام العنصريين؟

إن إنتخابات دارفور مهمة بالدرجة التي تهيئ لإنتداب لجان تسيير ينتهي دورها بإستكمال فصول المسرحية أو المؤامرة ولذا فلم يدقق المؤتمر الوطني في إختيار الولاة أو غيرهم، ولو فعل لعلم ان واحداً من هؤلاء لا يستطيع أن يجتاز إختبار الفيش عند أقرب نقطة تفتيش ناهيك عن أن يجرؤ لتقديم براءة ذمة مالية ولذا فأنا أعجب كل العجب من الوفود التي تقاطرت لإعلان ترشيحاتها في دارفور، علماً بأن الإنتخابات ما هي إلا برنامج يلزم تنفيذه وفق رؤي إستراتيجية معينة. فما هي هذه الرؤي بالنسبة لهؤلاء المتنافسين؟ تحضرني في هذه السانحة الطرفة الدارفورية القائلة: دبَرَه في ووقو (الأسد)،..... قالوا أمسكوا حمار أكوو. بمعني أن الفصيل مختلف كما أن وظيفته في القطيع متميزة، فعلام الإبهام؟ لقد عول جهاز الامن الوطني علي الخوف عند أهل المدينة والطمع عند أهل البادية، مما تسبب في حالة من الذعر أعاقت إمكانية التوصل إلي إستراتيجية تُخرج الإقليم من أزمته الوجودية. إن أهل المدينة لا يحسنوا المطالبة بمدرسة إبتدائية واحدة وهم يدرون أن الجهاز يطلب ٧٠ عربة سنوياً، علماً بأن تكلفة أعداد الدوشكة وتحميلها في عربة لاندكروزر تساوي تكلفة بناء المدرسة، ٣٠٠ الف جنيه. لقد تقدم مجموعة من الشباب "الأصحاء" بالتبرع بالدم في محاولة لإنقاذ زميلاً لهم في الجنينة، إلا أن الفحيص إستبعد (٥,٢٦٪) لإصابتهم بالإيدز حتي يحصل علي عينة نقية. لا أظن أن وزارة الصحة يمكن ان تلام وقد أسندت إليها ٠٠٠,٥ الف جنيه ميزانية تسيير شهرية، ناهيك عن مستلزمات البحث، التوعية والإرشاد.

إن المجموعات التي تم إستنفارها لصالح حملة الكراهية قد فرحت بادئ ذي بدء إذ ظنت أن الخلاء قد خلا لها، لكنها فوجئت بأن بواقي القصب الذي كانت تأكله البهائم قد نفد خاصة بعد أن توقفت الزراعة لأعوام متتالية. لقد بلغوا مبلغاً في الإجهاد جعلهم يتقولوا "السنة شوفنا قلْ الجمال"، ذلك أن المحل الذي كان يتوقع في شهر يناير قد تراجع إلي شهر سبتمبر. فماذا هم فاعلون؟ صدق درب، شاعر الرزيقات العظيم حين قال: العمرو ما هادي مُرَ الزمان بقدي!

في الوقت الذي تظل القوة الإقليمية والدولية عاكفة علي ما هو عاجل --الحوار مع الفرقاء المتشاكسين عسكرياً ورسمياً --ومهملة ما هو ضروري --التفاكر مع الغرماء المتوسعين مدنياً وشعبياً، فإن جهوداً مدنية قد قاربت الشقة بين الأهالي في شمال وغرب دارفور حتي كادت تلتئم لكنها تعسرت بسبب الإفتقار إلي التنسيق علي المستويين الأفقي (تجاوز المحدودية والنظر للقضية في شموليتها) ورأسياً (ربط هذه الجهود بالمنصة الرسمية الراعية للسلام دولياً من خلال التخطي للوسطاء غير الشرعيين الذين ظلوا يصروا علي صبغتهم المدنية مع أنهم منتدبين رسمياً من قبل الدولة!!). وإذ أن السلام المستدام يجب أن يجد مساندة قاعدية تتجاوز الإحتشاد وراء الحكومة أو التمرد، فقد وجب تفعيل الكيانات الدارفورية المدنية التي تجاوزت إبداء الرغبة إلي عقد مصالحات قاعدية ترعي المصالح الإقتصادية والإجتماعية المشتركة. مثال، تبني أمراء القبائل العربية بغرب دارفور حماية زراعة المساليت والفور، أو تكفل الزغاوة بإيصال إبل العرب إلي الكفرة في الحدود الليبية. هل يحتاج أهل دارفور لمؤتمرات قاعدية كي يعووا حقيقة واحدة: أنه لا يمكن لأحد أن يظل أسيراً لماض ساهم فيه سلباً لكنه لم يكن من مخططيه أصلاً! هل يعتبر الصلح مجرد إبداء لحسن النوايا كالتي قام بها قادة الكيان العربي من جراء تأييدهم ترشيح السلطان/ سعد عبد الرحمن بحر الدين حاكم إقليم، أم أن هنالك خطوات عملية يجب إتخاذها كي تتجنب دارفور الوقوع في المهالك مرة أخري؟ لماذا لا يؤيد النظام المصالحات القاعدية وربطها مع تلك الفوقية؟ ألا يعد ذلك مخرجاً فعلياً وحقيقياً من الورطة؟ هل تعميهم معضلة المخارجة القانونية عن الإستئناس بالرحمة الآلهية؟ يقول المفسرون أن فرعون كاد يُحجم عن إقتحام البحر لولا أن جبريل تبدي في صورة فارس راكب علي رمكة حائل (فرس لم تلقح) مرت بين يدي فحل فرعون (لعنه الله) فحمحم اليها وأقبل عليها، وأسرع جبريل بين يديه وإقتحم البحر. يقول جبريل للنبي (ص): لو رأيتني وأنا أخذ من حال البحر فأدسه في فِي فرعون مخافة أن تدركه الرحمة. الم يكن من الأجدي إرسال بني إسرائيل؟

كيف تتضمن الجهود الرسمية كما هي مع جميع الجهات وتتجاوز شعب دارفور، أم أنها تريد الإستمرار في تجيير إرادة هذا الشعب الأبي الكريم؟ لماذا لا يكون جهاز الأمن الوطني جهازاً أمنياً وطنياً، خاصة أنه قد أصبح مؤهلاً تأهيلاً عالياً بما توفرت لديه من إمكانيات أكاديمية ومهنية تفوق ما كان عليه حال الجهاز في مايو؟ لقد لاحظت ذلك من خلال الأساليب المرنة والحوارات السلسة التي يجرونها معنا لمجرد زيارتنا لأي مدينة دارفورية، وما يعقبها من قرارات متعنتة تقضي بالقاء كافة المناشط المدنية التي نزمع القيام بها. يشمل ذلك ورش العمل، الندوات الثقافية والأحاديث الإذاعية. إن الرعاية (وأحياناً الحماية) التي يتلقاها مهربو العربات بين الجنينة وأنجمينا، مروجو الأسلحة والمخدرات، جعلتنا نتشكك فيما نحمله من مُعِدات!

إن المُر الذي تجرعه أهلنا قد إستحال إلي محاية نورت بصائرهم وعلمتهم أن دارفور مستهدفة في ذاتها وان المفاصلة كائنة لا محالة بين من يريدون لها إندثاراً ومن يتمنون لها إزدهاراً. إن لحظة التمايز هي لحظة حرجة بالنسبة لأصحاب النفوس الضعيفة (فلما فصل طالوت بالجنود قال إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من إغترف غرفة بيده) لكنها لحظة مهمة بالنسبة للقيادة التي تريد أن تحدث تغيراً نوعياً في حياة المؤمنيين/ المواطنيين. إن من يستغل الإنتخابات موسماً لإحياء الهمة الدرافورية فلا إثم عليه، أمَّا من أمن بمشروعيتها فقد غرق في الإثم لأنه ساهم بطريقة أو أخري في تقنين سيادة المستعمرين. متما تمثل شعب دارفور الشخوص علي هيئتها الحقيقية (وليست المجازية) فإنه يسعه أن يستلهم العبرة من تجربة دورتي، درجيل، أم الطيور، أم وريقات ومعارك أخريات في مقاومة المستعمر، وبكافة الوسائل. لا ننسي أن نهنئ شعب المساليت بمرور ١٠٠ عام علي معركة درجيل/ دورتي، وإذ هي مناسبة للإحتفاء فهي واقعة للإقتداء.

ختاماً، إن توحيد الجبهة الوطنية الدارفورية يقتدي تشييد مظلة سياسية تستدفع الشعب نحو هدف واحد هو التحرير؛ التحرر من كافة العلائق التي تحول دون الوصول إلي شاطئ الحرية. إن ذلك لا يتحقق إلا إذا إستعنا بالذات العليا التي لها سنن في التخلص من الطواغيت وهي كالأتي:

أ‌. التيقن بأن التشييع هو وسيلة الطغاة لإستضعاف الشعوب، إذلالها وقهرها (إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعاً).

ب‌. الإستمساك بالعروة الوثقي إذ أن الإيمان هو وسيلة الشعوب في مقاومة التردي المعنوي، أما الإستكانة فهي حالة من حالات الإفراغ للتوحيد من محتوياته الموضوعية. وأنا أعجب من آئمة المساجد الذين يقنتون يوم ان تكون هنالك أزمة في فلسطين ويألون جهداً في التكلم عن معاناة شعب دارفور، علماً بأن الكرامة الإنسانية لا تتجزأ. (فليست المرأة الفلسطينية بأعظم قدراً من أختها التنجراوية القابعة في المعسكر أو الزيادية التي قاست مشقة الترحال). بل أنني أعتبر أن الإيمان هو الوسيلة لتحرير الإنسان (وليست الغاية) من القيود التي تحرمه التواصل مع ذاته.

ج. إن البلاغ مطلوب لتحقيق كرامة الخصوم وإذا لم يرعوا فإقامة الحجة عليهم واجبة.

د. إن التأييد السماوي يتطلب التسليم، الصبر والتوكل. وهذا ما يفعله النازحون الفور الذي يرددون أوراد التيجانية ويدعون عصر الجمعة بدعاء بسيط فحواه أن يتولي المولي معاقبة من فعل بهم هذا الجرم. ويالها من دعوي، ليتني كنت غائباً يوم أن يسقط الله علي هؤلاء المجرمين كسفاً من السماء أو يأتيهم بعذاب إليم.

هـ. إن النصر آت لا محالة شريطة أن يتخذ الداعية مسافة معنوية ومادية من المجرمين (وقال موسي ربنا إنك أتيت فرعون وملأه زينة وأموالاً في الحيوة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا أطمس علي أموالهم وأشدد علي قلوبهم فلا يؤمنوا حتي يروا العذاب الأليم (88) قال قد أُجيبت دعوتكما فإستقيما ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون (89) وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتبعهم فرعون وجنوده بغياً وعدواً حتي إذا أدركه الغرق قال امنت أنه لا إله إلا الذي أمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين (90) الان وقد عصيت قبلُ وكنت من المفسدين (91) فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك ءاية وإن كثيراً من الناس عن ءاياتنا لغافلون (92)). صدق الله العظيم - سورة يونس)

د.الوليد أدم مادبو

ليست هناك تعليقات: